قد لا نملك تحسين أحوال الناس الاقتصادية فى مصر, وقد لا نملك رؤية ثاقبة لنقل الناس من الفقر إلى الثراء اعتمادًا على مواردنا التى لا تُعد ولا تُحصى , وقد لا نملك الموارد اللازمة لبناء مستشفيات تعالج كل المرضى بالمجان , أو نبنى مدارس وجامعات تسع كل الناس , أو ننفق بسخاء على البحث العلمى , وقد نكون حقًا فقراء لا نملك أى إمكانيات مادية لذلك .
ولكن بكل تأكيد نحن نملك تطبيق العدل بيننا , نعم نملك أن نعدل بين جميع المواطنين , والعدل مفهومًا واسعًا , وليس قاصرًا على ساحات التقاضى , فالعدل فى ساحات القضاء هو أبسط صور العدل , رغم بطء التقاضى نتيجة تراكم القضايا لتراجع تطبيق العدل خارج ساحات القضاء .
فكلما زاد الظلم بين الناس زاد زحام القضايا , ولأن هذه ليست قضية مقالى هذا فلن نتوسع فيها , فقضية مقالى هو تراجع قيم العدل بين الناس بصفة عامة , حتى صار غياب العدالة فى شتى أمور الحياة كالعرف السائد , ولم يعد ينتظرها أحد , وتراجع معها مبدأ تكافؤ الفرص حتى كاد أن يندثر .
ولذا سادت الواسطة والمحسوبية فى كل شيء , وأصبحت أسلوب حياة طبيعية فى مصر , ومع سيادة الواسطة والمحسوبية وغياب مبدأ تكافؤ الفرص , ساد معهما شعور بعدم الانتماء للمجتمع , وبات حلم الخروج من البلد أمل الغالبية العظمى من الشباب فى مصر , وهو شيء فى غاية الخطورة.
لأنه لم يعد هناك أمل , وغياب الأمل يؤدى إلى الإحباط , والاحباط يجعل الانسان ضعيفًا أمام كل شيء , وقد يأتى يومًا نجد أنفسنا أمام دولة ضعيفة منهكة غير قادرة على مواجهة أى تهديد سواء كان تهديد داخلى أو خارجى , بغض النظر عن كون التهديد هو حرب خارجية أو كارثة طبيعية , ولنقرأ جميعًا تاريخ الدول التى انهارت أو وقعت تحت الاحتلال , فلم تسقط دولة إلا بعد أن تفشى فيها الفساد , فهو أصل كل داء فى أى مجتمع إنساني .
الواسطة والمحسوبية وإهدار مبدأ تكافؤ الفرص بين الناس على سبيل المثال , من أسوأ أنواع الفساد فى المجتمعات , فالفساد المالى رغم حقارته , فخسارته محدودة بفقدان بعض أموال الدولة , أما فساد تغييب العدل فخسارته هى فقدان الدولة نفسها , فما قامت دولة الا بالعدل وما سقطت دولة إلا بالظلم .
ومن العجيب أننا نختزل الحديث عن قيم العدل وتكافؤ الفرص فى الحكم على الانظمة السياسية فقط , وهو منطق غريب وينبئ عن تناقض صارخ فى الشخصية , فقيم العدل والمساواة بين الناس هى فى الاصل أسلوب حياة , وليست قاصرة على أنظمة الحكم , وهذا لا يعنى أستثناؤها من الحديث , فالحكام مسئولون بحكم وظائفهم عن نشر هذه القيم فى المجتمع .
ولذا فأننى أعتقد أننا جميعًا بحاجة الى مراجعة مدى تطبيقنا لقيم العدل والمساواة فى تعاملاتنا اليومية , بداية من تعاملاتنا داخل البيت الواحد , وداخل العائلة الواحدة , وداخل العمل , وداخل وسائل المواصلات وفى كل أمور حياتنا اليومية , ولا يوجد شئ أسمه العدل الانتقائى أو العدالة القاصرة على ما نُريد فقط , فهذه القيم كل لا يتجزأ, فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه , كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا هو دورنا كمواطنين ان نعدل فيما بيننا , أما دور الدولة , فهو تطبيق عملى لقيم العدالة بين الناس فى كل شئ , عدالة فى توزيع الامتيارات , وعدالة فى توزيع الاعباء , وفرض تكافؤ الفرص فى كل شئ , بداية من تساوى فرص حصول الجنين فى بطن أمه على رعاية صحية له ولأمه , وحتى ولادته ووصوله الى سن المعاش , مرورًا بكل مراحل حياته .
فيجد العدالة فى وجود مستشفى ولادة تساوى بينه وبين جميع المواليد , وفى مدرسة تقدم له تعليم حقيقى بغض النظر عن كونها مدرسة خاصة أو عامة , وفى جامعة يدرس فيها ما يتناسب مع قدراته بغض النظر عن أمكانياته المادية , وعند التخرج يجد نفسه خاضع لمعايير موحدة تساوى بينه وبين أقرانه بغض النظر عن وجود واسطة معه أو لا .
وعندما يجد فرصة عمل , يعمل يجد بيئة عمل عادلة , تحكمها معايير واضحة , لا تفرق بينه وبينه غيره على أى أسباب ليس لها علاقة بطبيعة عمله , وحتى قبل الالتحاق بأى عمل , تكون معايير الاختيار للوظائف موحدة وتساوى بين الناس , ولا تفرق بينهم على أساس المستوى الاجتماعى أو الاقتصادى أو الانتماء السياسى , ويكون معيار الاختيار هو الكفاءة الشخصية للمتقدم للوظيفة , وليس أى شئ آخر مما بات معروفًا فى عالمنا اليوم .
وأعود وأكرر , قد لا نملك الموارد لتحسين أحوال الناس الاقتصادية وخلق حالة من الرضا العام بين الناس , ولكننا بكل تأكيد نملك تطبيق قيم العدل والمساواة بين الناس , وهو كفيل بأن يجعل كل الناس على قلب رجل واحد فى العمل الجاد الذى يحولنا الى دولة قوية أقتصاديًا ومتقدمة فى كل شئ , فاليابان دولة بلا موارد تقريبًا ولكنها بالعدل والمساواة بين جميع المواطنين قامت أقتصاديًا , وسادت العالم أقتصاديًا متفوقة على كل الدول التى تمتلك موارد أقتصادية هائلة ولكنها لا تطبق قيم العدل والمساواة بين مواطنيها .