جاء مسرعا وكل ملامحه تحمل معانى الدهشة والفرح فى آن واحد، ولما سألته عن سر شعوره الذى توضحه ملامحه البسيطة، رد بمحبة اعتدتها منه على طول فترة صداقتى الممتدة من الكلية وحتى الآن، قال لى: "تحبى تشوفى اللى عمرك مهتشوفيه إلا فى مصر"، فأجبت: "إنت شايفنى أجنبية؟ ماانا مصرية"، فرد قائلا: "يمكن شغلك مع بتوع بره خلاكى زيهم"، وضحك ولم ينتظر منى ردا على كلامه الذى استنكرته جملة وتفصيلا.
فأخذنى إلى شرفة منزلى فى شارع شبرا الذى تقول كل طرقاته إن مصر وطن لكل أبنائها المسلمين والمسيحيين، نظرت وهو بجوارى لأرى فى سرادق أقامه شركاء الوطن لتلقى العزاء فى واحدة من بنات مصر التى استشهدت فى الحادث الإرهابى الذى تعرضت له الكنيسة البطرسية مؤخرا، وجدت شيخا يتلو وبصوت عذب سورة "مريم"، وتملكنى نفس شعور صديقى إيهاب وليم، المخرج العظيم، وبكينا معا فى نفس الوقت.
ونظر إلى ونظرت أنا أيضا ونحن نقول إن مصر لن ينال منها أحد ولن يهزمها أي من كان، وقص عليَّ "البوب" "كما نناديه كيف تحولت شبرا إلى بيت واحد، فكل الأسر فتحت أبوابها لاستقبال أهالى الشهداء والكل كان يسارع الزمن فى تقديم كل الواجبات من أطعمة وأماكن للمبيت ورعاية الأبناء الصغار الذين تركهم أهلهم من أجل استلام جثامين ذويهم، وكان كلما يقص عليَّ أي قصة يستكملها بالحلف مرتين، مرة بالمسيح الحى والأخرى بالصلاة على سيدنا محمد.
وانتهى صديقى من حكاياته، ولكنه لم يذكر الأهم من ذلك، والأهم من أن يتلو مسلم القرآن فى عزاء أخيه المسيحى، الأهم أن نتجاهل ولا نشارك فيما يذكره أعداؤنا على مواقع التواصل الاجتماعى من تحريم الترحم على أمواتنا النصارى، وأيضا أنه محرم بالثلاثة اعتبارهم شهداء، وأيضا عدم تقديم العون لهم، خاصة التبرع بالدماء، لأننا كلما أعلنا ونشرنا هذيانهم نعطيهم ما يريدون، وهو اللعب على وحدة الوطن، وإشعال نار الفتنة التى يريدون لها أن تأكل المودة والرحمة التى نعيش فيها معا منذ الفتح الإسلامى وحتى آخر العمر.
الشيخ الذى قرأ سورة "مريم" فى سرادق عزاء أخيه المسيحى يعلم تمام العلم أننا أبناء وطن واحد، والمسيحى الذى أسعدته تلاوة أخيه المسلم للقرآن فى سرادق العزاء إنما كانت سعادته لأننا شعب فى رباط إلى يوم يبعثون.
على الكل أن يعلم أن الإرهاب يفرق وينتصر فى كل البلاد إلا فى مصرنا يزيدنا ترابطا وألفة،فالشعب الذى يتجمع ليرى بعين رأسه تفكيك قنبلة ولا يخاف ويختبئ هو شعب صامد صلد.
الشعب الذى يؤازر خبير المفرقعات أثناء عمله ويدعو من خلفه بالنصر والنجاح، شعب لا يخيفه إرهاب ولا يرهبه قتلة مارقون. الشعب الذى يردد دوما "الأعمار بيد الله" هو شعب حافظ محفوظ من الله.
الشعب الذى على قناعة بأن الرضا بالمقسوم عبادة شعب لا تفرقه مفرقعات ولا مطالبات خارجية بحماية من أسموهم الإقلية المسيحية، شعب يصوم مسيحيوه مع مسلميه فى رمضان ويتبادلون العزائم والزيارات فى كل المناسبات، شعب يقف شامخا فى وجه المغرضين والأفاقين، شعب يعيش وهو على قناعة بأن مصر محروسة منذ بدء الخليقة، شعب راسخ باق أبى، شعب اختصه القرآن بذكر بلده مرات عديدة، شعب مبارك، شعب قال عنه الرسول العظيم خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) "هم فى رباط إلى يوم الدين واتخذوا منهم جنودا"، شعب لديه القدرة على مواجهة العالم كله وليس شرذمة من كارهى الحياة، شعب قال عنه المسيح عيسى ابن مريم "عليه السلام": "مبارك شعب مصر.. هو شعب متآلف ومتحاب ومحبوب".
إلى كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن وأمان مصر فله نقول: يا مصر لا تهزك صغائر التافهين، ويا شعب مصر العظيم.. تحابوا، وتآلفوا؛ واصطفوا فى وجه أعدائكم واجعلوا من محبتكم حصنا حصينا لا يقدر على اختراقه خفافيش الظلام