قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

لما الشتا يدق البيبان بتعملى إيه يا ماما؟

×

جاءت إلى غرفتى وعلى وجهها نفس الابتسامة التى كانت تكلل وجه أخيها أمجد رحمه الله، وبنفس المحبة المعتادة منه سألتنى.. لما الشتا يدق البيبان بتعملى إيه؟ وعلى طريقة الراحل فؤاد المهندس عندما سألته ابنته فى إحدى مسرحياته الجميلة.. الفرخة بتولد ولا بتبيض يا بابا؟ عندما قال لها أنا "لا هاتعصب، ولا اتنرفز، ولا هاضرب، قولى السؤال من تانى".

وكررت على نفسى ما قاله فناننا العظيم، وطلبت منها أن توضح ما ترمى إليه، وفى داخلى نار تعترك وتتعارك، وقلق، وحيرة؛ ووجدتها تحول الابتسامة إلى ضحكة أضافت إلى محبتها عندى محبة أخيها المرحوم. وقالت: "الحجار لما الشتا بيدق البيبان بيشتاق لمحبوبته، وإليسا بتروح لحبيبها من غير ماحد يحس بيها، ومولانا بيبتهل إلى ربه وأبواب السماء مفتوحة بهطول المطر، والفقراء يبحثون عن مأوى وغطاء أكثر دفئا، والجائعون يربطون على بطونهم؛ والأغنياء يأكلون ما لذ وطاب ممن يحمل سعرات حرارية عالية تحميهم من مجرد الشعور بالبرد.. وحضرتك هتعملى إيه؟ أو بتعملى إيه فى الغالب؟

ونظرت إليها وحاولت أن أعيد إليها السؤال بسؤال، فقلت: "أنتِ ضيفة ومروحة تانى؟ ما انتى معايا كل شتا وعارفة باعمل إيه"، وكى أنهى الحوار معها اتهمتها بأنها تريد التهرب من المذاكرة بالدخول فى حوارات ليس لها أى هدف، واستقبلت اتهامى لها بنفس طريقة أخيها رحمه الله وبنفس كلماته وهى: "وأنا برده باحبك".. تركتنى ابنتى وعادت إلى غرفتها، إلا أنها لم تتركنى كما كنت بل زرعت بداخلى رغبة مجنونة بأن أرى بأم رأسى ماذا يفعل الفقراء فى الشتاء؟

وبالفعل ارتديت ملابس شعبية واشتريت مجموعة من المناديل وربطت رأسى بطرحة وذهبت إلى عزبة الصفيح، وعزبة ناصر، وحوارى ومتاهات مصر عتيقة، وعزبة الوالدة، ومجاهل إمبابة، وغيرها من الأماكن التى دلنى عليها زميلى الصحفى محمد الذى كانت له مغامرات فى هذه الأماكن وصولات وجولات.

واستغرق منى هذا العمل الشاق نفسيا أكثر منه جسديا أسبوعين بالتمام رأيت خلالهما دولا أخرى داخل دولتى مصر.. رأيت عوالم أخرى داخل عالمى الذى كنت إلى حد ما طامعة بتغييره وتبديله.. وجدت أناسا لا يعرفون ما هو التفاح ويحسبونه كرة للعب، وجدت أمهات كل ما يفعلنه هو إنجاب مزيد من ملح الأرض، وجدت رجالا أكلهم الفقر والعوز وقهرهم الجهل والمرض.

وجدت شبابا أخرسهم ذل الحاجة وأصبحوا قنابل موقوتة، جاهزة، مستعدة لأن تفجر نقمتها وغضبها على من تحسب أنهم سبب فى ذلها وقهرها.. وجدت آباءً يبيعون بناتهم لكل من يدفع بوهم اسمه الجواز العرفى، ووجدتهم أيضا يتسابقون فى تقديم بناتهم لكهول الخليج بالثمن وبالورقة التى يطلقون عليها قسيمة زواج.. تعرفت وعرفت بنات صغيرات أعمارهن لا تزيد على العشرين إلا بالقليل، وللأسف تزوجن مرات عديدات، ومنهن من أنجبت وانتزع منها أبناءها آباءهم الأثرياء وعادوا بهم إلى بلادهم فى الخليج الغنى.. وجدت أيضا الكثير والكثير من أنواع التعرى المخفى، ووجدت معانى متناقضة بين الشرف والمهانة، والإهانة.

وجدت أن لقمة العيش قد تكلفهم شرفهم، وقد تدفعهم لتخليص مقدميها الملونين من حياتهم.. وجدت أن اختراع اللحوم والدواجن والكفتة لم يصل إليهم، ولا يصل إلا على موائد الرحمن فى شهر رمضان الفضيل.. وجدت أن تغيير الفصول والمواسم مصطلح أعجمى لا يعرفونه، لأنهم يعيشون ويرتدون نفس الملبس صيف شتاء، اللهم إذا أنعم عليهم أهل النعم ممن يخدمون عندهم ببقاياهم.

رأيت ما جعلنى أرفع صوتى وأطالب كل مسئول وعلى رأسهم رئيس دولتنا المحروسة مصر، بأن ينظر بعين الرحمة والاهتمام إلى بؤر الغضب، وبراكين الألم، فى عشوائيات مصر ومجاهلها، ومتاهاتها، ونجوعها وبرها، وبحرها... إليه أقول: "يا ريس.. أنقذ ملح الأرض من الذوبان قهرا، وفقرا، وجهلا، ومرضا، أنقذ وابك مثلما بكى من أجل تعثر دابة فى أقصى الشام، وخف مثلما خاف هو من سؤال رب العباد له عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون، فما بالك ببشر يموتون فى اليوم ألف مرة ومرة.. أنقذ من لا يجدون لقمة تسد جوعهم ولو حتى من صناديق القمامة.. أنقذ من سينقذوك من يوم يفر فيه المرء من كل من كانوا أحبابه فى دنيا فانية.. أنقذنى من سؤالى يوم يبعثون لماذا لم تعلنى ما رأيتيه حتى يقدم لهم من يملكون لكى يرتضوا ويعيشون.

أنقذنى حتى أستطيع أن أواجه ابنتى وأقول لها: "لما الشتا دق البيبان سارعت الخطى لكى أقدم ما أستطيع تقديمه لبنى الإنسان.. أنقذنى حتى أشعر بأن الرضا والغنى يعنى الرحمة والتواد والمحبة وأن لا ينام مؤمن وأخوه جائع مشرد مهمل فى دائرة النسيان".