مع تعويم الجنيه ارتفعت أسعار كل السلع المستوردة, وارتفع معها سعر كل شيء فى مصر سواء محليا أو مستوردا، ومن ضمن القطاعات التى تعرضت لضربة قاصمة بسبب قرار التعويم , قطاع المقاولات الحكومية أو المقاولات العامة , حيث زادت تكلفة العديد من الخامات بنسبة 100 % ومعظم الخامات تراوحت الزيادة فى أسعارها ما بين 40 الى 60 % فى أفضل الحالات .
ولذا زادت تكلفة عمليات المقاولات الحكومية على المقاولين بنسبة تزيد عن 50 % فى خلال أسابيع قليلة , وهى زيادة مرشحة للتصاعد مع زيادة الدولار , وهو ما ألقى بظلال قاتمة على هذه الصناعة المرتبطة بأرواح العديد من الناس , سواء العاملين فى هذا القطاع وهم مئات الالاف من العمالة المباشرة والملايين من العمالة غير المباشرة , أو أرواح ساكنى منشآت تم بناؤها فى ظل هذه الظروف الصعبة , فلا يعتقد أحد ان المقاول سيدفع من ماله الخاص فرق الاسعار , لأنه ليس من الطبيعى أو المنطقى ان يدفع كل مقاول آلاف أو ملايين الجنيهات من ماله الخاص للحكومة فى عملية هو يعرف أنها خاسرة من قبل بدايتها .
ولذا فإن سيناريو المقاولات العامة فى مصر خلال المرحلة القادمة لن يخرج عن توقف كامل لأعمال المقاولات العمومية , يتبعه توقف لحركة السوق وحركة التعمير سواء فى المدارس أو المستشفيات أو المساكن أو غيرها , أو قبول البعض العمل تحت شعار المثل البلدى ( اطبخى يا جارية , كلف يا سيدى ) فتكون المكونات والمواصفات المنفذة فعليًا فى أى منشأة هى طبقًا لما تم سداده من تكلفة بأسعار اليوم , لا طبقًا للمواصفات التى تم الاتفاق عليها فى وقت إبرام العقد أو استلام أمر الشغل أو خطاب الترسية .
وعندها سنجد مبانى ومنشآت تهدد حياة الملايين من الناس أو على أسوأ الفروض ذات عمر افتراضى أقل بكثير من الطبيعى , وفى هذه الحالة ستكون الحكومة شريكة فى الكارثة , لأنها تعلم علم اليقين منذ البداية أن التكلفة المدفوعة للمقاول أقل بكثير من التكلفة الفعلية لو التزم المقاول بتنفيذ كل الشروط والمواصفات الموجودة فى وقت التعاقد , وليس أمام المقاول سوى الغش الاجبارى فى كل شيء , بداية من الخامات الى المصنعيات والمواصفات القياسية , ولذا فإن هذه المبانى والمنشآت غير آمنة مهما قالت الاوراق الرسمية غير ذلك .
ولأننى سبق وان تابعت تجربة إحدى الهيئات الحكومية فى عمل مناقصات تعبئة السكر لصالحها , والتى كان الطن يُكلف صاحب مصنع التعبئة خمسة وسبعين جنيهًا بدون مصاريف نقل , والحكومة تدفع له أربعين جنيهًا فقط شاملة مصاريف النقل والتعبئة , وكانت النتيجة انك لم تكن تجد كيس السكر المكتوب عليه عبارة ( الوزن واحد كيلو جرام ) والمحتوى فعليًا على كيلو سكر كامل سوى فى مكان واحد فقط وهو دفتر الجرد , لأن الجميع كان يعلم ان من يقوم بتعبئة السكر يحصل على فرق التكلفة من الخامات نفسها وتحت سمع وبصر الجميع دون أستثناء , وظلت هذه المنظومة تعمل لعدة سنوات حتى تم تعديلها أخيرًا .
فإذا كانت فلسفة تجربة تعبئة السكر بأقل من التكلفة الفعلية سيتم تطبيقها فى المقاولات الحكومية اليوم , فسوف نجد أنفسنا أكبر متلقٍ للمساعدات الدولية من شتى بقاع الارض فى حالة حصول هزة أرضية بسيطة فى أى مكان فى مصر , لأن كل شيء سيتم بناؤه بنفس الفلسفة سينهار فى لمح البصر , أو كما سبق وان قلت سيقل العمر الافتراضى للمبانى وستنهار من تلقاء نفسها على أحسن تقدير , وسنعيد بناؤها من جديد وبتكلفة مضاعفة.
ولذا أقترح قبل فوات الاوان , تشكيل مجموعة عمل سريعة وحاسمة برئاسة رئيس الوزراء , لعمل جدول تعويضات أو تسويات لعمليات المقاولات الجديدة أو التى لم تنته أو التى لم يبدأ العمل فيها , وذلك لوضع نسبة زيادة محددة على سعر الترسية لأى عملية , بحيث نضمن نوعًا من التوازن فى تكاليف العمليات , نسبة تضمن لنا ان المقاول لن يلجأ الى ترك الجمل بما حمل , أو يترك ضميره فى بيته قبل خروجه الى الموقع وتكون النتيجة خسارة للجميع من جميع النواحى , ما زال الوقت أمامنا , ومازال بالامكان الحفاظ على مصالح وأرواح الجميع , وأتمنى هذه المرة ان تحرك ولو مرة واحدة قبل فوات الأوان .