قرر أن يعيش يوما واحدا بلا منصب وبلا حرس وبلا جاه ولاسلطان، ومن أجل ذلك استيقظ مبكرا وتخفى أو قل تنكر فى ملابس رثة أخذها من حجرة سائقه الخاص؛ ولم يعلم أيا من أسرته ولا ممن يحيطون به كظله بوجهته التى لم يكن هو يعلمها.
وعندما خرج من قصر رئاسته لم يدر لماذا يفعل ذلك ولا لأين يتجه ويتوجه، ربما كان حلمه الذى رأه بالأمس هو الذى جعله يفعل ذلك؛ فقد رأى فى منامه الخليفة عمر بن الخطاب يحاسب على أحد من رعيته بات جائعا، ورأى الدمع ينهمر من عين أمير المؤمنين احساسا بالذنب والمسئولية، ولم يستطع أن يتكلم مع العادل عمر ولم يستطع أيضا أن يكمل حلمه ويرى ماذا سيفعل رب العباد بعمر رضى الله عنه؛ فقط استيقظ خائفا وبعدها قرر أن يسعى بين الناس يسمعهم ويعرف ماهم عليه وبه.
خرج والكل يظنه السائق ، وترجل فى الطريق الطويل الممتد من مقر الرئاسة إلى حيث انتشر الناس، ولاحظ أنه كلما ابتعد عن مقر معيشته كلما زادت وازدادت حركة المواطنين.
أذهله مارأه من شباب يرتدون ملابس بعضها لا ينتمى لملابس الرجال وكثيرين يرتدون ملابس تدل على فقر مدقع، وبينهم من يرتدى ملابس فخيمة ومعتنى بمظهره وكأنه نجم سينمائى.
واصل مشيه ووصل به الطريق إلى ما يطلقون عليه أماكن شعبية، وهناك وجد العجب رأى البؤس والفقر والجهل والمرض مغلفين بابتسامات رافضة الموت مرحبة بحياة تشبة ساكنى القبور، ولم يستطع أن يكمل طريقه ولم يرد على تساؤلهم.. من هو؟ وماذا يريد؟
خرج مسرعا كمن به مس من الجن وهو رافض وكاره لما يراه، وفى داخله لاعنا لمن قالوا له أن الأمور تتحسن والشعب فى مراحل النمو والازدهار، وأنهم يحصدون ثمار مشاريع ومشروعات ناجحة.
ولكى يخرج من هذا الواقع أخذ خطواته أكثر ليخرج من هذا المكان، وفى محاولته الخروج مسرعا اصطدم بأجساد عارية فقرا وهما ومرضا، واعياه ما اصطدم به وأرهقه ما شعر به جسده المصدوم، لملم مشاعره التى ارتطمت بما يسمونه "توك توك" والذى اكتظت به هذه البقعة المحتلة جزءا من بقاع الوطن.
بعد معاناة مع التكاتك ومن يركبونها خرج فوجد نفسه أمام محطة المترو، فدخلها وهاله ما رأه من إهمال وقذارة وباعة ومتسولين؛ فقرر أن يركب المترو وفيه وجد "دولة المناديل" حيث راى بأم عينه مئات من المتسولين بالمناديل التى يلقونها على الركاب بعد قصة مؤلمة من شظف الحياة وقسوتها؛ وآخرون يبيعونها وهم يستجدون الناس أن يساعدوهم على مواجهة ما يمرون به من مآسى والام، ولم يستطع أن يربط بين استخدام الباعة والمتسولين والمرضى والنصابين لأكياس المناديل كوسيلة لجلب رزقهم، أن استطعنا أن نسميه رزقا، ولم يستطع ايضا أن يسأل ايا ممن مروا عليه وألقوا عليه بضاعتهم الزهيدة.
ازداد حزنه وقرر النزول فى أول محطة، وخرج من المترو وكله امتعاض وفى حالة تشبه الاغتراب وجد أمامه ما يسمونه بالكولدير شرب منه ووجد للمياه طعما اخر غير الذى تعود عليه حاول أن يبصقها على الأرض إلا أن نظرة أحد المارة المنتظرين دوره فى شربة مياه جعله يلغى هذه الفكرة ويبلع المياه على مضض، وفى اذنه كلمات تتلخص فى خلصنا ياعم خلينا نطفح شوية الميه ونكمل يومنا فى البحث عن رزقنا الذى عز الحصول عليه فى ظل الغلاء والفساد والرشوة والمحسوبية.
مشى وبداخله الف سؤال وسؤال كلها تندرج تحت تساؤل ليه، وإزاى ؟ أسرع الخطوات متخبطا فى الناس وبالناس سمع ضحكات وصرخات ودعوات وابتهالات وتهديدات وإحباطات وألم وأمل سمع كل الكلام الذى يؤكد له انه حى وليس مع أمير المؤمنين عمر وبأنه لازال أمامه فرص كثيرة لإصلاح سجله وسجل رعيته، دمعت عيناه ورفع يده إلى السماء طالبا العون والرحمة وهو يدعو وجد من يضع فى يده عمله وآخر يعطيه رغيف محشو لحما، ضحك من الموقف وقطم قطعة من الخبز، وعاد الى حيث يعيش ولكنه لم يستطع ان يستكمل طعم العيش، لأنه أصبح وأمسى يسعى لأن يجعل صحيفته ناصعة وشعبه داعيا له وحلمه هانئ باستقرار وأمن وأمان ورخاء مواطنيه.