رجع إلى بلده بعد غربة طويلة لم يترك فيها بلدا فى جميع أنحاء العالم إلا وترك فيها أثرا ومعلما.
وفى كل دوله كان له فيها مريدين وتلاميذ، وفى الدولة التى استضافته عمرا كان هناك معروفا محبوبا مشهورا ؛ إلا انه آثر أن يعود لوطنه مصر يكمل فيه ما بقى من عمره حتى يواريه ثراها النفيس.
عاد وكله أمل أن يغدق على ابناء وطنه من علمه وماله، فاتحا قلبه وجيبه وحساباته البنكية لذلك. وبالفعل بدأ أولى الخطوات وافتتح عيادة فى إحدى الإحياء الشعبية التى نشأ فيها هو وأسرته منذ عشرات السنين؛ وعيادة أخرى فى أرقى أحياء مصر وجعل العيادة الشعبية بلا أجر أو كما يقولون بلغة الغرب القادم منه "فرى"والعيادة الأخرى بسعر يليق مع حجمه العلمى ومع حجم من سيأتون بحثا عن الشفاء على يديه الكريمتين.
واكمل مشواره بافتتاح مشفيين على غرار العيادتين السابقتين.. ومضت به الأيام متنقلا بين مشروعيه ويرى من خلالهما العجب والعجائب فى العيادة الشعبية والمستشفى يرى ملح الأرض يزداد ألما ومرضا وقهرا إلا أنه راض مسلم بقضاء الله وقدره وغير ناقم على ما آل اليه حاله.
وجدهم قانعون بأقل القليل، متقبلون فكرة الموت فى أى لحظة، غير مهتمين بالقادم وكلما سألهم عما تركوه لذويهم كان ردهم "ليهم رب اسمه الكريم"، وفى العيادة والمستشفى الآخرين وجد أناسا لا يعرف كيف يصفهم، هل هم بشر أم أنهم كائنات أخرى، كانت شكواهم من اقل القليل، ويأسهم اقرب من دمعة العين الى الجفن. محبطون، خائفون ؛ قلقون، كلهم يأس ونفور وكره لمجرد تحمل" وقت "من أجل إتمام الشفاء.
إيمانهم مزعزع ولديهم رغبة قوية فى الاستمرار فى الحياة، شغلهم الشاغل غد بلا أى شئ يعوق مسيرتهم الدنيوية؛ قلقهم الغالب ماذا سيتركون من ميراث ومكاسب، ول ايتحدثون عن إرث المحبة، فقط يتحدثون عن محافل دنيوية وأرصدة من أعمال الخير شعر أنهم صنعوها من أجل الشهرة وليس من أجل تقربهم من رب العباد.
كان كل يوم يعود إلى منزله يجرى مسرعا إلى مكتبه وأوراقه وصوره ويسجل فيهم المزيد والمزيد عن انطباعاته وآراءه فيما يراه ويتعامل معه.
كان ممزقا بين عالمين ويزداد تمزقه بأنهما فى بلد واحدة هى وطنه الأول والاخير. وبين التصارع فى هذين العالمين اتخذ قراره بأن جعل المشفى والعيادة فى الحيين الشعبيين وقف مدى الحياة وقام بتزويدهما بكافة الأجهزة والطاقات البشرية اللازمة لهما وقام ببيع المشفى والعيادة فى المنطقة المزدهرة من مصر بأغلى الأسعار وحزم أمتعته وعاد من حيث أتى وكان كلما سأله أحد عن تجربته وسر عودته وعدم مواصلته حتى الموت فى وطنه الأول كان يرد بأنه لم يستطع أن يجيب عن سؤال: إنت مصرى؟؟؟؟