اليوم تنتهى الشهور الثلاثة التى أحصتهم ساعة ساعة، وابتلعت مرارة فراقه عنها ولأول مره منذ أن ولدته وكبر أمامها، وملأ دنيتها، واصبح يمثل كل عمرها ، فقد أنهى تعليمه الجامعى، وطلب منها أن توافق على سفره إلى حيث يرى انه سيصبح شيئا ذا قيمة وكيان.
وافقت واختزنت بداخلها كل معانى الشوق والحزن والوحدة وأوقفت عقارب الساعة وعادت طوال هذه الفترة لتنهل من ساعات وجوده معها، ومرحه وحزنه، وسعادته وتعاسته، ولم تنس يوم أن أعد حقيبته، واستأذنها ان يأخذ معه هاتف أبيه المهاجر طوعا من حياتهم إلى مكان وزمان غير المكان والزمان.
ولما سألته عن سر رغبته بالاحتفاظ بهذا الهاتف؟ قال لها لانه هاتف لا تظهر أرقامه ولم يعطها الفرصة لتسأل وتتساءل عما تحمله هذه الكلمات..وعندما همت أن تنزل معه لكى تكون بجانبه حتى يستقل طائرته، وجدته وبأدبه الجم المعتاده عليه يلح عليها بأن يكون وداعهما فى مكان اقامتهما لأنه لايحب لحظات الفراق فى المطار، ووافقت لانها لم تعتد ان ترفض له طلبا، وكيف ترفض له اى شىء وهو وحيدها وزهوة عمرها وحلم اليوم والغد.
سافر وأصبحت تعد الأيام عدا وكلما اجتاحها الحنين اليه تجده يتصل بها وكأنه يعلم لوعتها، يحدثها عن عمله واستيقاظه مبكرا ، عن تدريبات يقوم بها، وإن كانت شاقة إلا أنها اكسبته عضلات ومهارات قتالية.
يحدثها عن أصدقاء فى المكان أقوياء، صابرون، لا يبخلون بأى شىء يملكونه من أجل أحبائهم وذويهم، يحدثها ويطيل الحديث عنها، وعن حبه لها، وعن إيمانه بانها كل مايملك، ومن أجلها على استعداد ان يفقد كل ماهو غال وأن يقدم لها روحه إذا تطلب الأمر.
قضت معه على هذه الحال ثلاثة اشهر أسعدها بانه سيأتى اليها اليوم كى يراها فى زيارة تستغرق ثلاثة أيام، وكم كانت سعادتها وهى تبارك محبوبها الذى سيكلف نفسه الكثير ويعود على نفقته من أجلها هى.
وجاء اليوم الموعود وكانت لم تنم منذ الأمس وأعدت واستعدت من اجله وطرق الباب كعادته مرتين متتاليتين مصحوبتين بغنوته المفضلة التى سمعتها على مدى سنين عمره التى تخطت العشرون 'حبيبك جه ع الباب اهه'جرت الى الباب وهى تسأله هل تخلصت من مفتاحك ؟ولم تنتظر منه ردا.
وفتحت له ووجدته واندهشت عندما رأته مرتديا زيا عسكريا، واحتضنته بقوة وبكت من فرحة لقائه ،الا انها باهتته بالسؤال ..ايه اللى انت لابسه ده؟ليه لابس لبس الجيش؟انت مش كنت مسافر؟فقبل يديها ووجنتيها ورأسها، وضحك معها وقال لها"ماهو ده كان سفرى "ونظرت اليه مستغربة راغبة فى التوضيح لأنه وحيد فكيف له ان يلتحق بالجيش؟فقال لها سامحينى يا أمى فقد كذبت عليكى ودخلت الجيش وكتبت على نفسى إقرارا بذلك بل اننى طلبت من والد صديقى اللواء أحمد ان يسهل لى كافة الإجراءات حتى التحق بالجيش.
أمى منذ نعومة اظافرى وحكاياتك عن الوطن وحماته يجعلنى أعد الأيام والسنين كى أكبر وألبى نداء الوطنية، ولما علمت أن الوحيد لايجند جن جنونى، وأصبحت اسال فى كل مكان عن اية طريقة تمكنى من الالتحاق بالجيش وقضاء الحق المقدس.
واستطعت أن احقق حلم عمرى وعشت هناك ورايت يا أمى أسودا على هيئة بشر.. رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه، عشت يا أمى عيشة الزاهدين.
كنت مع شباب فى مثل سنى أويزيد، كل همهم "مصر"كيف يصدوا عنها الأذى،، كم من شهيد كان معنا يجرى ويأكل ويشرب وفى لحظة قدم حياته من أجل وطن.. شباب يا أمى مثل الزهور اغتالتهم يد الإرهاب الآثمة.
استشهدوا يا أمى وهم يضحكون مستبشرون بالجنة.. معى رسائل تركها شهداء الأمس فيها بشرى لأهلهم بأنهم فى الجنه. هل تدركى يا أمى ما أدركته ؟هل تعى كيف شعروا وهم يكتبون وصاياهم ويسطرون آمالهم ويبشرون اهلهم بالجنة؟ ويقولون لبلدهم مصر بانك البقاء والابقى ..هناك يا أمى فى الصحراء وفى الرمال صنع منا رجال الجيش الأوفياء صمامات امان للوطن وقوارب نجاة لمصرنا ..هناك ما تستطيعى أن تسميهم بصنياعية الصاغة يشكلون ذهب حياتنا من أجل مصر ..هناك الكل ينام ويصحو ويعيش ولا يشغله إلا حب بلاده والعمل على نصرتها ورفعتها.
هناك المقصد والهدف والمرمى هو مصر... بكلمة مصر نهضت أم أحمد من فرشتها وهى تردد" خير اللهم اجعله خير". وازدادت خوفا عندما سمعت صوت إحدى المغنيات وهى تصدح وتقول سلملى ع الشهدا اللى هناك...