الضباط وأبناؤهم .. صيت بنكهة الغنى

يتحدثون عن جيش وشرطة مصر، ويتطاولون
يتحدثون عن الضباط، ويدعون إنهم متسيدون
يتحدثون عن مرتبات الجيش والشرطة، ويبالغون
يتحدثون عن نوادي ومستشفيات الجيش والشرطة، ويغلون
يتحدثون عن أبناء الضباط، ويصفونهم بأنهم مرفهون
يتحدثون ويتحدثون ....
فتلك الأحاديث فهي في الواقع ليست إلا أحاديث، لا تمت للحقيقة بصلة، وهذا ما دفعني إلى كتابة مقال هذا الأسبوع.
بدايةً من هو الضابط؟ الضابط هو أبي، الضابط هو عمي، الضابط هو أخي، الضابط هو زوجي، وإذ ربما سيكون ابني، فالجيش والشرطة بضباطهم وأفرادهم هم أهالينا، وأهالينا ليسوا بالمرتزقة، ويقطع لسان من يصفهم بالميليشيات أو العسكر.
فيا من تتحدث صراحةً أو مجرد تشارك في التطاول أو الهجوم على جيش وشرطة بلادك، فعليك أن تعلم جيدًا، أن جيش وشرطة بلادك هما مصدر قوتك وعزتك وفخرك، وأي انحناءه لا قدر الله هي انهيار لكيانك الحالي والمستقبلي، لك ولعائلتك، إذا ما كنت تحرص على حياتك وحياة كل عزيزٍ لديك.
فالضابط يعيش حياة وإن صح التعبير هي رحلة مليئة بالتقلبات، وتعيش أسرته بأكملها معه تلك الرحلة، فالضابط هو شخص وهب روحه فداءّ لوطنه، وزاده في تلك الرحلة هو الظهير الشعبي، الداعم لخطواته، كي يستطيع استكمال تلك الرحلة، والتي يعلم أنها قد تنتهي بفقدانه لروحه فداءً لشعب بلاده، فعقيدته الأساسية التي يعمل من أجلها هي "النصر أو الشهادة".
فإذا ما تحدثنا عن التسيد، وهو ليس كذلك بالمرة، فما هو إلا حزم في الحوار، نابع من الانضباط الذي اعتاد الضابط عليه سواء أثناء الدراسة أو العمل، فالضابط شعاره "الانضباط أساس النجاح"، ودون هذا الانضباط فلن تصبح المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الأنجح في مصر.
أما الحديث عن ارتفاع مرتبات الجيش والشرطة، فما هي إلا أكذوبة مبالغ في حجمها، فالضابط مرتبه نعم أفضل من الموظف الحكومي، إلا إنه ليس بالكثير كما يروج له البعض، أخذًا في الاعتبار اختلاف بيئة العمل والمخاطر التي قد يتعرض لها كلاهما، أضف إلى ذلك اختلاف الروح التي يعمل بها كلاهما.
فمرتب الضابط قد لا يكفي مجابهة ظروف الغلاء، فشأن الضابط في ذلك الأمر مثل أي رب أسرة مصرية متوسطة الحال يحتاج إلى المعاونة المادية سواء من الزوجة أو أسرته هو شخصيًا كي يعيش في مستوى اجتماعي مقبول.
فهل سألت نفسك عن المرتب الذي ترغب في الحصول عليه في حالة تيقنك التام بأن ذلك العمل من الممكن أن تخسر حياتك في مقابله؟، في حالة أن تخسر أسرتك وأطفالك سندك لهم لمواجهة صعاب الحياة، هل سألت نفسك عن المرتب الذي يمكن أن تقبله في مقابل إنك قد تصاب بعاهة مستديمة؟، هل تساءلت عن المرتب المقدر لتوافق على العمل في ظروف عمل غير مستقرة ومتغيرة لا يتحملها إلا من آمن بتلك الرسالة؟، هل تساءلت عن المرتب المقبول في بيئة عمل تصبح الجنازات العسكرية هي التكريم الأسمى لموظفيها؟ أعتقد أنه لا يوجد مبلغ يمكن أن يقدر قيمة ذلك.
إلا أن الأمر يختلف بالنسبة للضابط وأسرته، فجميعهم يشعرون بالفخر، والعزة، ولا يضعون العائد المادي صوب أعينهم كما يفكر الآخرون.
ونأتي إلى نوادي القوات المسلحة، فمثلها في ذلك الشأن مثل النوادي الاجتماعية المخصصة لموظفي بنك معين، أو العاملين في مجال معين مثل المعلمين أو الأطباء أو المهندسين؛ وهي منتشرة في مصر؛ فلهم نوادي اجتماعية يتمتعون بمميزاتها دون غيرهم.
أضف إلى ذلك أن تلك النوادي التابعة للقوات المسلحة أو الدور المختلفة، قد أفسحت المجال لمن لا ينتمي إلى المنظومة العسكرية من المدنيين بالتمتع بخدماتها، فالنتيجة كانت ازدحام تلك النوادي والدور بشكل مبالغ فيه.
كذلك الحال بالنسبة للمستشفيات العسكرية، نجد أنها ترحب بتقديم خدماتها للمدنيين، وهو ما شكل عبء إضافي على مرافقها. وذلك إرضاءً لمن لا ينتمون إلى تلك المنظومة الإدارية الناجحة، الذين أصبحوا هم المنتفعون الأوائل بخدماتها.
لا أقصد التفرقة في المعاملة لا سمح الله، ولكن أسوةً بالفئات المجتمعية التي يتمتع موظفوها بالخصوصية في الحصول على حقوقهم الترفيهية والعلاجية، والتي لا يتحدث أحد عن مميزاتها.
نأتي إلى أبناء الضباط، وما يثار عن كونهم مرفهين، فمن أين سيأتي الترفيه؟، فهم ينتمون إلى أسرة كادحة، فالأب في تلك الأسرة يكاد لا يرى أسرته، والأجازات الرسمية تعتبر أوقات عمل مؤكدة له، والأم في تلك الأسرة كرست حياتها لتربية أبنائها وعملها، فأبناء الضباط نشأوا على حب وأهمية العمل والواجب الوطني.
وإذا ما تحدثنا عن رغبتهم المستقبلية في الالتحاق بالكليات العسكرية، نجد أن تلك الرغبة أساسها انتمائهم لتلك المنظومة، والتي جعلت معظمهم لا يركزون في مجالات وآفاق أخرى، فيما ندر من أبناء الضباط.
وشأنهم في ذلك شأن أبناء الأطباء أو المهندسين أو أساتذة الجامعات .....، فلماذا لا نسأل أنفسنا لماذا يتمنى أن يصبح أبناء الأطباء أطباء مثل آبائهم، أو المهندسين أو أساتذة الجامعات أو حتى لاعبي الكرة والفنانين.
فنشأة الأبناء محاطين ببيئة مهنية معينة، تؤثر بلاشك على رغبتهم المستقبلية في الانتماء إلى المجال الوظيفي الذي ينتمي إليه آبائهم، فهو المجال الأكثر معرفة بالنسبة لهم.
فتلك الأحاديث وهذا التركيز الداخلي مع المنظومة العسكرية يمكن أن يعكس شيء هام، ألا وهو حالة من العشق المتبادل ما بين الضباط وأفراد الشعب المصري، فالضابط يتمنى أن يفتدي الشعب بروحه، والشعب يتمنى أن يصبح في مكانة الضابط، فالشعب يرى أن الضابط هو المكانة الأعلى في المجتمع.
فنحن جيش في صورة شعب.
وعلينا أن نعي جيدًا حجم التركيز الخارجي مع مؤسستنا العسكرية. وذلك حتى تصبح تلك الأحاديث التي تحاول تعكير الصفو ما بين الشعب والجيش والشرطة، ما هي إلا أحاديث تذهب هباءً، وتصبح الأقاويل عن الجيش والشرطة والضباط وأبنائهم ما جاءت إلا لتؤكد أنها صيت ولكن بنكهة الغنى.