لم يعد الحديث عن البدائل العملية لتقليل عجز الموازنة العامة للدولة بعيدًا عن فرض المزيد من الأعباء على المعدمين والفقراء يجدى نفعًا , فلا أحد يسمع سوى صوت نفسه , فى ظل حالة من الاصرار على الاعتقاد بأنه ليس بالامكان أفضل مما كان , وفى ظل الاصرار على السير على نظريات اقتصادية تقليدية بالية عفا عليها الزمن, كان لزامًا علينا البحث عن كل ما يمكن عمله لتخفيف معاناة الناس الاقتصادية غير المباشرة .
لذا سأتناول فى مقالى هذا موضوعًا آخر مرتبط بمعاناة الناس الاقتصادية غير المباشرة , وهى معاناتهم فى الدوائر الحكومية المتنوعة , سواء عن طريق سداد رسوم مع الخدمات لا تذهب للخزانة العامة للدولة بل تذهب الى صناديق خاصة تتولى الانفاق بسخاء على من يدير هذه الصناديق أو ينتفع بها , أو معاناة إضاعة الوقت والجهد فى الجرى خلف قضاء مصالحهم .
فلا تكاد تخلو مؤسسة أو هيئة من الصناديق الخاصة , ولكل صندوق نظام الصرف الخاص به , وهو نظام يضعه المستفيدون منه , فاذا ذهب المواطن لترخيص سيارة سيجد نفسه يسدد رسوما تذهب لصناديق خاصة, واذا ذهب لزيارة مريض فى مستشفى سيجد نفسه يسدد رسوما تذهب الى صناديق خاصة , واذا ذهب لاستخراج شهادة ميلاد أو شهادة وفاة سيجد نفسه يشترى طوابع تذهب قيمتها الى صناديق خاصة , واذا ذهب الى محكمة للتقاضى سيجد نفسه يسدد رسوما تذهب الى صناديق خاصة وغيرها .
ففى مصر عشرات الصناديق الخاصة فى معظم ان لم يكن كل الوزارات والهيئات تجمع رسوم ليل نهار مع أى خدمة تقدمها , أينما تذهب عليك ان تدفع للصناديق الخاصة , هذا بخلاف المبالغ التى تذهب الى الجيوب الخاصة لبعض الموظفين فى صورة إكرامية أو هدية اجبارية أو غيرها من المسميات الحديثة للرشاوى والاتاوات , فهى معاناة دائمة وشبه يومية .
والعجيب أنك تجد ذلك بات شيئا شبه طبيعى , واذا اعترض أحد يجد نفسه غريبًا بين الناس الذين يعانون ولكنهم مضطرون لذلك , فنحن نعيش بمبدأ مشى حالك وادفع علشان تخلص مصالحك , وهو ما بات يشكل عبئا شديدا وسببا أساسيا من أسباب معاناة الناس دون ان يشعروا , فالمواطن يدفع دون أن يدرى جزءا كبيرا من دخله فى الرسوم والاتاوات بصفة شهرية , ولو لم يدفعها لاستطاع ان يوظفها لقضاء حاجاته الاساسية , والمؤسف ان كل من يُنشئ صندوق خاص لخدمة مصالحه الخاصة يعتقد أنه لا يشكل عبئا على المواطنين , لأنه ينظر الى المبلغ الذى تم تحصيله لصندوقه فقط , ولا ينظر الى أن هذا المواطن يسدد لعشرات الصناديق الاخرى أينما ذهب ومتى ذهب الى قضاء مصلحة ما .
هذا جانب , والجانب الآخر من جوانب معاناة الناس الاقتصادية غير المباشرة , وهى التعقيدات البيروقراطية والروتين الحكومى المميت , فالخدمة التى يتم تقديمها فى دقائق أو ساعات تـأخذ أيام وأسابيع , وفى كل زيارة للمصلحة أو الهيئة الحكومية يتكبد المواطن الوقت والجهد والمال , وهو ما يؤثر فى النهاية عليه اقتصاديًا ويرهقه ماديًا , فأقل تكلفة فى أى زيارة لمصلحة أو هيئة ما هى مصاريف الانتقال التى يتكبدها , فبصفة يومية يدفع المواطن تكاليف مواصلات كان من الممكن ان يوفرها , ويدفع رسومًا ما كان يجب ان يدفعها .
واذا كانت الحكومة عاجزة عن كبح جماح التضخم , فهى ليست عاجزة عن تخفيف معاناة الناس الاقتصادية بإيقاف استنزافهم فى مبالغ يسددونها ليل نهار , أو على الاقل توجيه أى مبالغ يتم سدادها فى أى جهة حكومية تحت أى مسمى الى خزينة الدولة , كى تعود بالنفع مرة أخرى على جموع المواطنين بدلًا من تخصيصها لمصلحة مجموعة صغيرة من المنتفعين , وكذلك محاربة الفساد بصورة حقيقية وليست إعلامية كى نوفر على المواطن البسيط مبالغ الرشاوى والاتاوات التى يدفعها دون وجه حق, سواء للحصول على ما يستحق أو ما لا يستحق .
هذه هى بعض الطرق السهلة والممكنة للتخفيف من متاعب الناس الاقتصادية , وبخاصة المواطنين محدودى الدخل دون أن تتكلف الحكومة جنيهًا واحدًا .