وبضدها تتميز الأشياء

لا شك أنه عندما أنعم الله علينا بالاختلاف أرادنا أيضًا أن نتجاوز حدود هذا الاختلاف والتنوع حتى ينتفع بعضنا ببعض، ويعين بعضنا بعضًا على أمور الحياة، صغيرها وكبيرها، ولا شك أن الاختلاف مغامرة ممتعة إذا ما أدركنا حقيقته، وهو من وجهة نظري سر ثراء المعارف الإنسانية والخبرات والتجارب، تخيّل عزيزي القارئ، لو أن جميع سكان الأرض يتكلمون لغة واحدة، ويتشاركون جميعًا ثقافة واحدة، يتمسكون بعادات وتقاليد واحدة، شكلهم واحد، ولباسهم واحد، هل تعتقد أن الحياة وقتها ستكون ذات معنى؟ أعتقد أنها ستكون مملة أشد الملل!
الاختلاف إذًا دافعٌ للاستكشاف وباعثٌ عليه، وحلاوة ثمرة الاستكشاف لا يعرفها إلا المغامرون الذين يفتحون قلوبهم وعقولهم للآخرين، ويحترمون وجهات نظرهم المختلفة، كما أنني أظن أنه لا يخشى الاختلاف إلا المتقوقعون الذين يتشرنقون على أنفسهم ويخافون التغيير حتى في وجهات نظرهم التي قد تتأصل لديهم فتصير كالعقائد التي يموت المرء عليها ولا يتركها أبدًا.
تتعدد وسائل استكشاف الاختلاف وتتنوع بتنوع مظاهره وتعددها، لكن وسيلة استكشاف الاختلاف في الآراء ووجهات النظر هي المناقشة، فالمناقشة العاقلة والحوار الهادئ وسيلة تلخص للمرء خبرات وتجارب الآخرين في حياتهم، وتؤدي إلى تنوع معارفهم، كما أن لها بالغ الأثر في كسب ود الآخرين، وتكوين علاقات قوية مع المحيطين بالمرء في مدرسته، أو جامعته، أو بيئة عمله، أو بيته الذي يحيا به.
وقد يلجأ الفرد منّا في نقاشاته وحواراته مع الآخرين إلى استخدام الحجة والدليل كي يبرهن على صحة أمر فيثبته ويؤكده، أو على عدم صحته فيدحضه وينفيه، ولا بأس بهذا طالما أنه يتم في إطار من الود والتحضر والاحترام، لكن كثيرًا جدًا ما ينفلت "عيار" محادثاتنا اليومية ونقاشاتنا الهادئة فتتحول إلى صراعات كلامية، وتراشق بالألفاظ، وتسفيه للآراء، ثم يعود كل طرف في المحادثة ليزعم أنه ما كان يتناقش إلا بالمنطق الحسن والدليل والبرهان، ومن هنا كان من الضروري جدًا أن نتعرف جميعنا على معنى الحجة ومكوناتها، بل وأنواعها أيضًا، فما هي الحجة؟ وكيف يمكننا أن نميز بين الحجة السليمة وبين الحجة الفاسدة التي يعد الاستدلال بها باطلًا؟
ولأن العرب قديمًا قالوا "وبضدها تتميز الأشياء" فقد جال بخاطري أن أعرّف للقارئ الحجة بتوضيح ما الذي لا يمكن أن يعتبر حجة على الإطلاق! ورأيت أن أفضل وسيلة لهذا هو توضيح ما ذكره الموقع الإلكتروني لكلية ميسا "Mesa Community College" في مقال مقتضب حول ما لا يمكن أن يعد حجة منطقية، فقد ذكر الموقع أنه لا يمكن اعتبار التالي حجة بأي حال من الأحوال:
1. الصراعات الكلامية التي تحتوي على السباب والتنابز بالألقاب.
2. النقاشات التي تحتوي على آراء لا يدعمها دليل حقيقي.
3. المعلومات الحقيقية غير القابلة للنقاش.
4. الأحاديث الصاخبة التي لا تعبأ بالأطراف الأخرى في النقاش.
5. الأفكار التي لا يدعمها المنطق أو الأدلة التجريبية.
ولأنني أعتقد أن ما ذكره الموقع إجمالًا يحتاج إلى تفصيل، فإنني قد عقدت العزم على توضيح كل عنصر من العناصر الخمسة المذكورة أعلاه في مقال منفصل بإذن الله تعالى، حتى تعم الفائدة، وحتى نستطيع جميعًا أن نفرق بين الدليل والحجة والبرهان وبين "الهري" المحض الذي يظن صاحبه –مخطئًا– أنه يستحق حسن الاستماع والإنصات.
إن غايتي الأولى من كتابة سلسلة المقالات السابقة التي جاءت بعنوان "حتى يكون لكلامنا فائدة" وفي كتابة المقالات القادمة بإذن الله تعالى هي الإسهام في محاولة الارتقاء بمستوى حواراتنا ونقاشاتنا جميعًا، وإثراء معارفنا بجعل حواراتنا أكثر هدوءًا وتحضرًا.. وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى، ورزقنا من العلم أنفعه.