الحكمة من تكرار ضمير الفصل «إياك» في سورة الفاتحة

ذكر مفسرو القرآن الكريم، لمسات بيانية في قول الله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وحكمة تقديم «إياك نعبد على إياك نستعين».
وقال العلماء، إن افتقار العبد إلى عبادة ربه وحاجته إليه لا يعدلها حاجة، ونعيمه بها لا يعدلها نعيم، ولما كان الإنسان لا يستطيع جلب ما ينفعه ودفع ما يضره إلا بالاستعانة بالله سبحانه والتوكل عليه، ولما كانت العبادة هي أم المنافع وغايتها، جاء الإرشاد منه سبحانه إلى ضرورة الاستعانة به عز وجل، والتوكل عليه في تحقيق الغاية العظيمة والثبات عليها.
ومن أجمع الأدعية وأنفعها في هذا المقام: ما ورد في سورة الفاتحة من الجمع بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» [سورة الفاتحة، الآية: 5]، حيث فرض سبحانه علينا أن نناجيه وندعوه في كل صلاة.
وأوضح ابن القيم في تفسيره لقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»: وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأضاف ابن القيم: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، فنصفهما له تعالى، وهو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفهما لعبده وهو {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}" .
وبيّن العلماء الفوائد البيانية حول «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، ومن هذه اللمسات ما يلي: أولاً: تقديم مفعولي نعبد ونستعين: قدم مفعولي (نعبد) و(نستعين) لقصد الاختصاص: فـ«ـإيَّاكَ»: في الجملة الأولى مفعول به مقدّم على فعله وهو: {نَعْبُدُ}. وإيَّاكَ: في الجملة الثانية مفعول به مقدّم على فعله وهو: {نَسْتَعِينُ}.
وأفاد هذا التقديم تخصيصَ وحَصْر العبادة لله وحده دون سواه، فلا يعبد بحق ويستحق العبادة إلا الله وحده، ولا يستعان، وليس أهلاً للاستعانة إلا الله تعالى وحده.
والمعنى: نخصك بالعبادة، ونخصك بالاستعانة، فلا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ إذ لا تصح العبادة إلا لله، ولا يجوز الاستعانة إلا به.
ثانيًا: تكرار ضمير الفصل إياك:
وسر تكرار إياك للتنصيص على طلب العون منه تعالى، فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارًا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب، وقيل: إنه لو اقتصر على واحد، ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه.
ويقول ابن القيم: "وفي إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلاً إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف".
ثالثاً: التعبير بالعبادة والاستعانة بلفظ الجمع لا الإفراد:
إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام، المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه.
وإياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
ورأى الشوكاني في فتح القدير: "والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد وقيل: إن المقام لما كان عظيمًا لم يستقل به الواحد استقصارًا لنفسه واستصغارًا لها فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس" [9].
رابعًا: قرن العبادة بالاستعانة:
قرنت العبادة بالاستعانة ليدل على أن العبد لا يستطيع أن يقوم بأي عبادة إلا بإعانة الله وتوفيقه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه العبادة.
فالاستعانة بالله علاج الغرور العبد وكبريائه، و"يجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته".
خامسًا: إطلاق الاستعانة:
يقول الشوكاني: "وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم"، وفي روح المعاني ما نصه: "في سر إطلاق الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه، فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم. وأيضًا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب".
سادسًا: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:
وسر هذا الالتفات أن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات، بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، ولذلك تخلص الكلام من الثناء إلى الدعاء، والدعاء يقتضي الخطاب.
فالثناء يحْسُنُ فيه الإِعلانُ العامّ، وهذا يلائمه أسلوبُ الحديث عن الغائب، والعبادةُ الدّعَاءُ يَحْسُنُ فيهما مواجهة المعبود الْمَدْعُوّ بالخطاب.
يقول البيضاوى: "ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات، وتعلق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة؛ ليكون أدل على الاختصاص وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدًا والغيبة حضورًا".