بعد وفاة مالكه.. "ريش" كافيه احتضن ثورة 1919.. والمبنى تحفة معمارية ثقافية تخطت الـ100 عام.. تقرأ منه تاريخ القاهرة

كافية ريش" تحفة معمارية تقرأ منها تاريخ القاهرة
أكثر من 100 عام على التجمعات الثقافية بالمقهي
جلسات أدبية لنجيب محفوظ وشعراء
وفاة مالك المقهى لن يكون نهاية "ريش"
عندما تطأ قدماك منطقة وسط البلد تجد الشوارع مزدحمة بالمواطنين، موظف ذاهب إلي عمله، وآخر عائد إلى منزله، وثالث يقف أمام متجره ليكسب رزقه، ولا تخلو المنطقة من المقاهي التي اشتهرت بها وسط البلد، وبتجمعات الأصدقاء من مختلف الفئات والمجالات.
ولعلك تقترب من شارع طلعت حرب لتجد ستة أركان من الخشب مطلية باللون البني الداكن، تعلوها لافتة مدون عليها "مقهى ريش" تأسست عام 1908 لمالكه الذي رحل بالأمس مجدي عبد الملاك، حيث تقع عيناك علي تحفة معمارية وسط البنايات المصرية العريقة، وقد بنيت العمارة التي يقع بها المقهى عام 1908م علي يد عائلة يهودية تسمي "عادا"، ليمر بذلك أكثر من مائة عام علي مكان تجمع به شباب المثقفين، وكبارهم.. ولعلك سيدي القارئ كثيرا ما تشتهي إلي الجلوس بمكان أزدحمت أركانه وطاولاته بالثقافة وغذاء الروح بأعظم مجمع ثقافي سياسي في الوطن العربي.
ولعل جنبات المكان تحكي جلسات نجيب محفوظ الأدبية إلى جانب ندوات العقاد في زمان آخر، وتوفيق الحكيم في زمان ثالث، وتبادل الحديث في السياسة والاقتصاد وهموم المجتمع المصري على مناضده، ولهذا فالمقهى يزين جدرانه بصور هؤلاء المشاهير، وللمقهى دور وطني ففي عام 1919، لأنها كانت مكانا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة.
وهذا ما تؤكده "المطبعة" التي تم العثور عليها منذ سنوات داخل بدروم المقهى، ففي عام 1992 ضرب زلزال القاهرة أصاب المقهي بشروخ، وعندما بدأت عملية الترميم اكتشف دهليز صغير يؤدي إلي مخزن قديم وجدت به براميل كحول فارغة وماكينة طباعة يدوية تدل علي إن المنشورات كانت تطبع في المقهى".
وقد ذكرها عبد الرحمن الرافعى في كتابُه تاريخ مصر القومي فى الفتره من 1914 إلى 1921، حيث قال" قهوة ريش كانت المكان اللى بيقعدوا فيه الأفنديه من الطبقة الوسطى، كمان اتعرفت كمقر بيجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدثون عنها او عن البلاد ككل".
وللمقهى طقوس معينة منها عدم تقديم "الشيشة" لزبائنها بالإضافة إلى منع اللعب بالأوراق والكوتشينه وعلى الرغم من امتلاء القهوة بالناس إلا أن الهدوء هو سمة المكان الأساسية.
وكما هو الحال بالقاهرة توجد في مدن بتونس وبالجزائر و"الدار البيضاء" بالمغرب مقاهٍ تحمل اسم "ريش"، وتتشابه مع مقهى القاهرة وباريس في كونها تقع في أحد الميادين الكبيرةوبنفس طراز العمارة والديكور والوظيفة أيضا.
وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 قام "ميشيل بوليدس" بشراء المقهى من صاحبه الفرنسي،وكان ميشيل من أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة،وظل المقهي ملك لليونانيين حتى عام 1960م ثم انتقلت ملكيته إلي "عبد الملاك خليل" صعيدي مصري وما زال يملكه حتى الآن.
وكان المقهي في ذلك الوقت ممتدا إلي ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وكان بجانب، المقهى مسرح غنائي غني عليه عمالقة الغناء وقتها وعلى رأسهم صالح عبد الحي وزكي مراد، وبجوار المقهى تم إنشاء صالة مصارعة ومكان للعب الطاولة.
ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بُعد ثقافي، وتحول من مجرد مقهى إلى مكان يتجمع فيه أبناء الطبقة الأرستقراطية والفنانون والمثقفون والأجانب.
وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية،وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي.
مقهى ريش من الداخل بمثابة ألبوم يحكي تاريخ القاهرة، فتجد صور للأهرامات الفيضان في مصر.. وصور لميادين القاهرة قديما.
أما المكان نفسه فعندما تدخله تشعر براحة غريبة وإحساس فريد، وتخرج من صخب الشارع لتستريح أذنك على صوت محمد عبد الوهاب يشدو علي "الجرامافون"كان نجيب محفوظ يعقد ندوته الثقافية صباح كل يوم جمعة بمقهى ريش فنجد صور اشهر الفنانين والكتاب اللذين كانوا يجلسون في هذا المكان معلقه علي حوائطه علي رأسهم طه حسين.. يوسف إدريس.. أم كلثوم.. نجيب الريحاني .. مأمون الشناوي.. نجيب سرور.. يحي حقي.. أحمد فؤاد نجم.. أنور وجدي.. حسين رياض.. نجيب محفوظ ومن داخلها غنت أم كلثوم أولي حفلاتها وهي ترتدي الثياب البدوية وغيرهم، فلا يكاد يوجد اسم واحد لمع في الحياة السياسية والثقافية والفنية لم يجلس علي ريش.
ويروى أحد العاملين بمقهى ريش إن شخصيات مسلسل "ليالي الحلمية" من زبائن حقيقة لريش فشخصية "سليم البدري" الذي جسدها "يحيي الفخراني" مقتبس من شخصية حقيقية هي "محمد عفيفي باشا"، كما أن رواية "الكرنك" التي كتبها نجيب محفوظ كانت عن ما تعرض له المثقفون وطلبة الجامعة من اعتقالات في قهوة ريش.
ولم تقتصر حكاوي ريش على الفن استطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة، وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية.
ففي عام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة،وكان مكانا سريا يجتمع فيه دعاة الثورة،هذا ما تؤكده "المطبعة" التي تم العثور عليها داخل بادروم المقهى.
ففي عام 1992 ضرب زلزال القاهرة أصاب المقهي بشروخ، وعندما بدأت عملية الترميم اكتشف دهليز صغير يؤدي إلي مخزن قديم وجدت به براميل كحول فارغة وماكينة طباعة يدوية تدل علي إن المنشورات كانت تطبع في المقهى".
كما خرجت من ريش مظاهرة بقيادة "يوسف إدريس" و"إبراهيم منصور" احتجاجا علي معاهدة كامب ديفيد الذي وقعها أنور السادات مع إسرائيل.
كما كانت جزءًا من حياة شاب عراقي جاء يدرس بالقاهرة وهو الرئيس "صدام حسين"، وكان يرأس المكان الذي يتجمع فيه اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي "عبد الوهاب البياتي" و"قحطان الشعبي".
فبعد كل هذا الإبداع الذي خرج منها، وبعد كل الشخصيات البارزة التي كانت تجلس فيه يتبادلون الحوار والفكر، نجده اليوم خالي من الزوار فلا يجلس عليه أحد من الكبار إلا قلة قليلة من المفكرين والصحفيين..فتغير كل شئ من حوله فلماذا يبقى على حاله ولم يبقى أي شيء في مصر على حاله..
وعن مقهى ريش، كتب شاعر العامّية المصري المعروف أحمد فؤاد نجم قصيدةً مشهورةً وساخرةً في الوقت نفسه بعنوان "التّحالف"يقول فيها: "يعيش المثقّف على مقهى ريش .. يعيش يعيش يعيش..محفلط مظفلط كتير الكلام .. عديم الممارسة عدو الزّحام.يعيش المثقّف .. يعيش يعيش يعيش".