يقع باب زويلة في قلب القاهرة التاريخية، وبجواره يقع سبيل "نفيسة البيضا" ضمن مجموعتها الأثرية، وصاحبة الوكالة هى نفيسة البيضا التي كانت جارية وسميت كذلك لجمالها وبياض بشرتها، وهو ما جعل علي بك الكبير يشتريها ويتزوجها، والوكالة ضمن مجموعة معمارية أثرية متكاملة تركتها وتتكون من وكالة وربع وسبيل فوقه كتاب لتعليم الأطفال.
الوكالة مسجلة كأثر برقم 395 وبنيت عام 1796م-1211هـ، وكانت قديمًا تستخدم في التجارة وحاليًا تمارس دورًا شبيهًا، حيث إنها تشتهر بصناعة الشموع ولنا أن نتخيل ما يحمله ذلك من مخاطر المواد الكيماوية القابلة للاحتراق، وهو ما يمثل جانبًا من الحالة العامة للوكالة والتي تبعث بالحزن على التاريخ والاستياء من إهمال مسئولي الآثار لها وتعدي البعض عليها، الباعة الجائلون يحاصرونها، استباحوا تاريخها.
وفي زمنٍ مضى، كان أغنى أغنياء مصر: جارية شركسية اشتهرت باسم نفيسة البيضاء، وأطلق عليها آخرون اسم نفيسة المرادية، نسبة إلى زوجها الثاني مراد بك، وفي البداية كانت مجرد أمَة حين جلبت إلى مصر، لا يعرف أحد محل ميلادها - فمن قائل إنها من الأناضول، أو بلاد القرم أو حدود القوقاز - أو أوصافها سوى أن اسمها يوحي بأنها كانت بيضاء البشرة، ومن الواضح أنها كانت بارعة الجمال لدرجة أن "سيدها" الأول علي بك الكبير، لم يعتقها فقط، وإنما تزوجها أيضا، وأنها كانت الجائزة التي طلبها أحد أشهر المماليك ثمنا لخيانته.
وهنا نقرأ ما كتبه عبد الرحمن الجبرتي كما جاء في كتاب "دراسات في تاريخ الجبرتي"، ومؤلفه هو محمود الشرقاوي، الذي يقول إن ظهور أمر نفيسة بدأ عندما دخلت في حريم علي بك الكبير، فأحب الأخير هذه الجارية الشركسية وأعجب بها، وبنى لها دارا تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق، غير أن المملوك مراد وقع بدوره في هوى نفيسة، فلما أراد محمد أبو الدهب خيانة علي بك الكبير وتحدث إلى المملوك مراد في ذلك، اشترط عليه الأخير نظير موافقته على الخيانة أن يسمح له بالزواج من هذه الجارية، فلما قُتل علي بك الكبير عام 1773 تزوج مراد هذه الحسناء.
وهكذا كانت الرشوة التي نالها مراد بك على خيانته هى: نفيسة البيضاء، ولكن التاريخ له مفارقات عجيبة، فبقدر ما كان مراد بك من كبار الخونة، كانت نفيسة امرأة رائعة في جمالها وقوية في شخصيتها، وفي حياة زوجها مراد بك الذي حكم مصر مع إبراهيم بك بعد موت أبو الدهب لمدة تزيد على عشرين سنة، نالت نفيسة في المجتمع المصري مكانة كبيرة، عاشت نفيسة تلك الفترة كواحدة من أثرى أهل مصر، بما امتلكته من القصور والجواري، إضافة إلى أن المصادر التاريخية تؤكد أنها كانت من أثرى نساء عصرها نتيجة استثمار أموالها وتجارتها في الأسواق وإدارة وكالة خاصة بها.
ويجب ألا ننسى أنها دخلت منزل مراد بك وقد ورثت عن علي بك الكبير ثروة طائلة، وزادت هى ثراء فوق ثراء بعد هذه الزيجة الجديدة، وعاشت معه حياة الترف بما جلبته له من ميراثٍ شمل إلى جانب البيوت والقصور والتجارة جيشا خاصا يتألف من 400 مملوك وأسطولاً من السفن على النيل، وستا وخمسين جارية.
وحين أعادت نفيسة بناء وكالتها التجارية، أضافت إليها سبيلا وكتابا خلف باب زويلة عام 1796م / 1211 هـ، ونقشت على واجهة السبيل أبيات شعرية تمتدح فضائل تلك السيدة، تقول كلماتها:
سبيل سعادةٍ ومراد عز وإقبال لمحسنة رئيسة
يسرك منظرٌ وصنع بديع وتعجب من محاسنه الأنيسة
جرى سلساله عذب فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة
نؤرخه سبيل هدى وحسن لوجه الله ما صنعت نفيسة
تقع واجهة السبيل والكتاب على القصبة العظمى للقاهرة، وهى من الواجهات نصف الدائرية، التي تطل على الشارع بثلاثة شبابيك، توجد في دخلات معقودة ترتكز على أربعة أعمدة ملتصقة بالواجهة، وهذه الشبابيك مغشَّاة بأشكال زخرفية نباتية متشابكة كقطعة الدانتيلا، ولعل ما يسترعي الانتباه زخرف الجزء العلوي المعقود من هذه الشبابيك، حيث إنها تشبه نهدي امرأة، وهذا النوع من الزخرفة أراد به الفنان أن يعبر أو يشبه عطاء الأم لطفلها الحنان والحياة من ثديها، لعطاء السبيل لوارديه العطاشى والظامئين للماء الذي هو مصدر الحياة.
ومن الجلي أن نفيسة اختارت بعنايةٍ موقع السبيل، إذ إنه يقع في الطرف الجنوبي لشارع المعز لدين الله الفاطمي بالقرب من بوابة المدينة، وهو معلم تاريخي يحدد الأسوار الجنوبية للمدينة كما أنها ظلت منطقة تجارية مهمة لمدة تسعة قرون، وأهمية الموقع تنبع أيضا من أن السبيل والكتاب اللذين شيدتهما في مبنى من طابقين يلاصق وكالتها، أقيما على شارعٍ رئيسي بالقرب من باب زويلة، حيث كانت ينطلق موكب الحج السنوي إلى بيت الله الحرام.
كان لهذه السيدة مكان الاحترام والتقدير عند العلماء والأمراء، وعند الشعب أيضا، إذ كانت نبيلة وكريمة وموهوبة وذكية، حتى ذكر كاتب معاصر لها "أنها كانت تعرف كتابات شعراء العربية كما لو كانت العربية لغتها الأصلية برغم أنها لم تتعلمها إلا في وقت متأخر من حياتها"، وربما كانت تعرف الفرنسية إلى جانب قدرتها على القراءة والكتابة بالتركية والعربية، وعملت نفيسة بذكاء على حماية الأملاك الضخمة الخاصة بها وبزوجها، وبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، وواست عددا كبيرا من الفقراء الذين نكبوا في الحملة الفرنسية من أهل القاهرة، ودفعت كثيرا من الغرامات التي فرضها الفرنسيون على المصريين ولم يستطع غالبيتهم دفعها، ونالت بذلك احترام المصريين والأجانب.
في الوقت نفسه، حافظت تلك السيدة على علاقة مجاملة مع إدارة الحملة الفرنسية، حتى إنها سمحت بتمريض جرحى الجنود الفرنسيين في قصرها، وقد استضافت نابليون بونابرت على العشاء في قصرها، وتلقت في تلك المناسبة هدية عبارة عن ساعة مرصعة بالألماس، وبسبب حكايتها المليئة بالأحداث المثيرة، نسجت الكاتبة الفرنسية فرنسواز برتوليه تفاصيل حياة وموت نفيسة البيضاء في قصةٍ عنوانها: "عاشت في الظل.. ماتت في الذل".