الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«توكل».. واسرق نضال الشعوب


تسع دقائق فى فيلم يسمى وثائقيا تستخدم فيه أدواتك للتطفل والسطو على نضال الشعوب، تكفي لكى تكون صاحب أزمة مع ذاتك قبل الآخرين.

هكذا يمكن أن يكون (توكل) من وجهة نظر محايدة، وعلى العكس تماما من وجهة نظر منتجيه الذين يعتبرون بفيلمهم أن دعم الشعوب فى محنتها إذلال تاريخي لها عند مستعرضي العضلات سياسيا أو عسكريا بمنطقة ملتهبة منذ عقود.

أراد منتجو الفيلم الإيراني تقديم قاسم سليماني كمنقذ لأربيل من داعش، وحامي حماة الوطن المضطرب فى مشاهد تروج لمزاعم استنجاد الزعيم الكردي به لصد خطر التنظيم، تنتهى بهبوط طائرة المنقذ الإيراني ورفاقه وعسكره فى العاصمة الكردستانية، ما خلق أزمة دبلوماسية بين الإقليم وطهران لا تبتعد فى حقيقتها عن أزمات الأذرع الشيعية المختلقة فى العراق كافة.

مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في الإقليم، سفين دزيي أبلغ القنصل الإيراني رسميًا باحتجاج أربيل على الفيلم وإيصال ذلك إلى الجمهورية الإيرانية، مشددا على علاقات صداقة تاريخية مع إيران لا يمكن معها السماح بتشويه الحقائق بهذه الطرق، فيما رد القنصل الإيراني في أربيل، نصر الله رشنودي، بأن الفيلم لا يعكس الموقف الرسمي لبلاده، وأن سليماني كان يكن احترامًا كبيرًا للقادة الكرد، وأن السلطات الإيرانية تحقق بشأن الفيلم، وأن بارزاني "يعرف موقفنا الرافض لهذا الفيلم".

دعك من المنتج السينمائي الذي ترى أربيل وغيرها بالتأكيد أنه يتجاوز فكرة حرية الفكر إلى تضليل الوعي وتشويه الحقائق، و ضع نفسك أمام تساؤل يمثل استفهاما حول نظرة الدول القادرة لجيران فى محنة وأزمة، وما إذا كانت لها دور فيها أو قدمت دعما لتجاوزها.

تذكرون العراق وقد عاش عقودا من الأزمات بدأت منذ ترسيم حدوده واشتعلت مع حرب الـ8 سنوات مع الجارة إيران، حتى عادت فرق مذهبية تخترقه بالوكالة فى ظروف ما بعد 9 أبريل 2003 وسقوط نظام صدام حسين، منذ ذلك التاريخ لم يفلح الدستور الاتحادي الفيدرالي ببنوده فى حماية حقوق وحريات ولم يشهد البلد المظلوم اتفاقا ناجحا بين طوائفه بسبب خضوع بعضها لجارة هنا أو قوة إقليمية أو دولية هناك.

فى ظل هذه الظروف حضر تنظيم داعش للمشهد العراقي ليزيد الطين بلة وتجري بحور الدم ويقدم العراقيون أنفسهم شهداء فى حرب نيابة عن العالم دفاعا عن استقرار منطقة بكاملها، دون أن ينكر أحدهم حقيقة وجود مساعدات عسكرية لقوات عراقية أو بيشمركة إقليم كردستان فى الشمال، لكن عراقيا واحدا لم يسمح لغيره أن يباشر نضالا أو دفاعا عن شبر من العراق ضد داعش نيابة عنه.

راجع التجربة المصرية فى دعم الثورات التحررية لشعوب المنطقة كلها، فى اليمن والجزائر وقرب منابع النيل، وبلدان لم يقل الزعيم المصري جمال عبد الناصر إنه يقاتل نيابة عن أحد فيها أو يتصدر جبهات حرب تحررية قبل صفوف أهل الأرض والوطن الأصليين، ولم ينتج فيلما هنا أو مطبوعة هناك تشير إلى مساعدات مصرية لهؤلاء أو أولئك.

هكذا يكون الرمز وتعيش الزعامة خالدة، وهكذا تكون الرؤية القومية وإن اختلفت مع طرق تطبيقها ونتائجها، لكنك تقف أمام زعيم يعرف حدوده مع أشقاء النضال ولا ينكر عليهم كفاحهم، فلم يدع حكمه لنظام ما فى بلده أو يباشر انتقاصا من قيادة وطنية أو نيلا من سيادة.

حتى الأمريكان والإنجليز وغيرهم من المختلفين مع العرب والكرد جنسا ولغة وقومية فى العراق، لم يظهروا أي تفاخر مزعوم بما قدموه من مساعدات عسكرية أو إنسانية فى محنة مواجهة داعش على أرض العراق، بل إن أصواتا من داخل بلدانهم كانت ترى وجود جيوشها من قبل هناك خطأ تاريخيا تسبب فى تعميق أزمات هذا البلد وتعطيل مستقبله لعقود مقبلة، ولسنا هنا بصدد حديث عن أذرع لها تعبر بين الحين والآخر صراحة عن تبعيتها لمذهب أو إمام تحكم قراراتها إرادة خارجية.

تمثل السينما ذراعا مهمة للقوى الناعمة، لكن يخطئ من يتخذها سلاحا يستخدم بطريقة يكتب بها تاريخا زائفا أو تصور به مشاهد لا أسانيد صحيحة عليها، ربما هى أداة الآن لكتابة ما قد تصححه وثائق تفرج عنها أنظمة بعد عقود، لكن تأثيرها الآني أدنى من وقائع مستقرة فى الضمائر الإنسانية تجاه نضال مباح لشعوب مقهورة.

إن التلويح بمنتج سينمائي يخلق جدلا وأزمة دبلوماسية هو إنكار لمحنة يعيشها العراق وتحياها المنطقة كلها فى وجود داعش وغياب أي اتفاق عراقي على تجاوز الخلافات الداخلية حتى الآن، ويفسر فى توقيته على أنه مزايدة سياسية على قوى وأحزاب بعينها قبل انطلاق انتخابات مرتقبة فى العراق، ولن تحتمل ظروف عودة داعش بتفجير بغداد الأخير تفسيرا لترويج الفيلم سوى أنه اتجار مستمر بمحنة ممتدة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا فى شأن قوى الشر بالعراق والمنطقة كلها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط