الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مع فولتير.. في التاريخ


إن النظرة التي يبديها الإنسان لأي شيء هي نتيجة لقناعات شخصية ورؤى فكرية تحصّل عليها هذا الإنسان خلال رحلته الحياتية الفكرية والثقافية، وكلما كانت سعة ثقافة هذا الإنسان، وكلما كانت رؤيته إنسانية، كلما كانت هذه النظرة شمولية، وكلما كان الإنسان كمخلوق واحد في حدقة عينيه.
وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لجميع البشر فإن للمفكرين والفلاسفة رؤى خاصة تضيف دوما للرصيد الإنساني، اختلفنا مع هذه الرؤى أو اتفقنا. ومن هنا تأتي أهمية الوقوف عند  نظرتهم الفريدة، في بعض الأحيان، للحياة بكل أحداثها وتفاصيلها، وتاريخ الإنسان الممتد. ومن هنا أيضا تأتي أهمية التعرف على النظرة للتاريخ ومعرفة ومن  الذي يصنعه عند هؤلاء الذين أثروا الحياة البشرية؟!.

لقد كان الشائع قبل فولتير، أي قبل عصر التنوير الأوروبي، أن غالبية الكتب التاريخية، كانت تحكي وتتحدث في معظمها حول قصص الملوك والقادة العسكريين، التي كان يوليها المؤرخون جل اهتمامهم، فكانت كتب التاريخ تزخر بما قام به هؤلاء فتبرز معاركهم وأعمالهم ومعاهداتهم، باعتبارها ذلك الأساس الذي لعب الدور الأهم فيما وصلت إليه الإنسانية وأنها هي التي صاغت التاريخ البشري فكانوا يَعْزُون لهؤلاء الملوك والقادة العسكريين الفضل فيما وصل إليه التاريخ الإنساني.
هذه النظرة لم تكن لترضي أو تقنع هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم إيقاظ العقل البشري في أوروبا، من سباته العميق الذي طال إلى ما يقارب العشرة قرون - استلب فيها العقل الأوروبي استلابا - بدأت بانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي، واستمرّت حتى عصر النهضة والاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي.
وفي عصر النهضة كان لفولتير ذلك التنويري الفرنسي، بل فلنقل العالمي، وجهة أخرى ورأي مخالف في التاريخ، ومن الذي صنعه؟.
فلقد انقلب الفيلسوف الفرنسي الشهير على تلك النظرية في كتابة التاريخ، حيث رفض أن يكون التأريخ للحوادث أو للشخوص، بل اتخذ منهجا جديدا للتاريخ يعلي وينتصر من خلاله للعقل البشري، فكان يرى أن الحضارة البشرية لا تُبْنى إلا على تلك القيم التي عمل على إنشائها والحفاظ عليها العقلُ البشري الذي يكمل بعضه بعضا من خلال هؤلاء الأفذاذ الذين يقدمون للعالم المنجزات الحضارية والإبداعات الفنية، ومن هنا فإن تاريخ الإنسان يتمثل في وجهه الناصع في تاريخ العقل البشري ولا يمكن أن يتم اختزاله مطلقا في تلك الأحداث وهذه المعارك  وهؤلاء القادة وأولئك الملوك.
إذًا فسيرة التاريخ الحقيقية الموضوعية كما يراها الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير (بالفرنسية: Voltaire)‏. ‏ (21 نوفمبر 1694 – 30 مايو 1778)،  هي تلك التي تصور هذه المراحل التي انتقل إليها مرحلة تلو مرحلة العقل البشري.
فالعقل وحده هو الذي استطاع ان ينقل الإنسان من تلك الحالة الهمجية التي كان عليها الإنسان في عصوره السحيقة، إلى حالة المدنية والحضارة، التي ينعم بها، إنسان عصر التنوير، فالتاريخ هو تاريخ العقل لا الأشخاص وتاريخ الفكر لا المعارك، تاريخ التقدم والتطور والارتقاء وليس تاريخ الحروب والغزو والنهب والسرقة واستعباد الشعوب.
هذا الذي لا يعني بكل تأكيد أن فولتير قد أسقط تلك الأهمية التاريخية للأحداث التي وقعت في تاريخنا البشري، فهو لم يهمش تلك المعارك التاريخية الكبرى، ولم يكن له أو لغيره من المفكرين أو المؤرخين ذلك.
فلا شك أن هناك أهمية تاريخية لكل هذه الأحداث،  ولكنها في النهاية حوادث ووقائع محدودة بالزمان، مهما طال، وأيضا محدودة بالمكان، مهما اتسع، وهي في كل الأحوال انعكاس وتظهير عملي لتطورات فكرية، فالأصل، في كل أحداث التاريخ، كما يرى، هو العقل والتقدم الفكري، إذًا فالعقل، عند فولتير، هو الذي يقود المسيرة الإنسانية، ويمكننا  أن نستنتج، ببساطة شديدة، أن قادة التاريخ، كما يرى فولتير، هم المفكرون والفلاسفة والحكماء، وليسوا هم هؤلاء القادة العسكريين أو أولئك الحكام، كما كان سائدا من قبل.
هذا الذي يؤكده في إحدى رسائله عن التاريخ فيقول فولتير:  ليس هدفي هو التأريخ السياسي والحربي بل تاريخ الحضارة وتاريخ العقل الإنساني، وإني لأوثر إبداعات موليير وراسين وديكارت، على سبيل المثال، على كل المعارك الحربية للويس الرابع عشر (بالفرنسية: Louis XIV)‏‏ (5 سبتمبر  1638 - 1 سبتمبر  1715م). ملك فرنسا منذ 14 مايو 1643م حتى وفاته، فلم يبق من هؤلاء قادة الجيوش والأساطير اليوم إلا أسماؤهم، وقصص مئات المعارك التي خاضوها، التي لا ثمر يجنيه إنسانُ اليوم أو المستقبل منها، أما رجال التاريخ العظماء، فقد انتفع واستفاد ويستفيد منهم البشر منذ زمانهم ولغاية اليوم، فقناة تربط بين بحرين أو لوحة بريشة فنان أو مسرحية رائعة يكتبها شاعر أو حقيقة فكرية أو علمية يكشف عالمٌ عنها اللثام،  لأثمن ألف مرة من جميع تاريخ الملوك وكل حكايات وقصص الحرب.
ويظهر رأيه بوضوح شديد في إحدى المناقشات بين بعض المفكرين والتي وكان حاضرا بها، والتي كان موضوعها: أي الرجال التاريخيين هو الأعظم؟!.
فرأى البعض أن "الإسكندر المقدوني" هو أعظم شخصية تاريخية، وهناك من رأى في "تيمور لانك" أنه الأعظم تاريخيا، وغيرهما من الشخصيات التاريخية البارزة كانت اختيار هذه الثلة من المفكرين، أما فولتير - في كتابه رسائل فلسفية - فكان له رأي آخر حيث ذكر أن إسحاق نيوتن هو أعظمهم على الإطلاق، فالعظمة هنا في العبقرية، وليس يوجد عند هؤلاء القادة أية عبقرية، تلك التي هي وحدها تنفع الناس وتدفع حضارتنا إلى الأمام وتنير أجيالنا القادمة، وبهذه المقاييس فإن رجلا مثل السيد "إسحق نيوتن"  (بالإنجليزية: Isaac Newton)‏ ‏ (25 ديسمبر 1642 - 20 مارس 1727) والذي يعتبره العديد من العلماء أعظم عالم في التاريخ، وإن نازعه في هذه المكانة بعد ذلك العالم الفذ ألبرت أينشتاين  (بالألمانية: Albert Einstein) ‏(14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955).
فإسحق نيوتن أعظم من ساهم في صنع التاريخ والحضارة الإنسانية، حيث أنه كما يرى فولتير، لا يكاد يتكرر كل عشر قرون ولذلك، بما أسهم نيوتن في العلوم والفلسفة، فهو العظيم وليس أولئك السياسيين والمحاربين الذين لا يخلو منهم قرن من القرون ولا عصر من العصور، والذين ما هم في حقيقتهم إلا أشرار لا هم لهم سوى الغزو والتدمير والحرب وبناء مجدهم الشخصي.
ويرى أنه لو كان لزاما علينا أن نقدر أحدا، فإن هذا التقدير لا يكون إلا لهؤلاء الذين عرفوا الكون وعرفونا عليه لا أولئك الذين مازالوا مستمرين في تشويهه.
ولعل من أجمل ما يعبر عما ذهب إليه فولتير هذان البيتان اللذين كتبهما فيلسوفنا وشاعرنا العربي الكبير جبران خليل جبران في قصيدته المواكب:
قد كان في قلب ذى القرنين مجزرةٌ / و في حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ.
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ / و في انكساراتِ هذا الفوزُ و الظفرُ.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط