الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قوة ناعمة حقيقية.. التسامح وقبول الآخر


نتحدث دوما عن الفن والثقافة والغناء والصحافة وغيرها؛ كقوى ناعمة داعمة للتواصل بين الشعوب، وفى ذلك نستدعى قيمًا عديدة لا نحتاج إلى جهود كبيرة لنشرها.


بين هذه القيم؛ التسامح وقبول الآخر، وهى قيمة مستمدة من العقائد السماوية المختلفة واستطاعت شعوب قدمت الأخلاق والحقوق على التدين؛ أن تتعامل معها بطريقة صحيحة وتعزز تماسك مجتمعاتها من خلالها، وتحاور أهل المجتمعات الأخرى وتتعايش معهم.


التسامح هو التجاوز عما يمكن أن يغتفر من أفعال وأقوال، والسمو بالنفس على كل الصغائر، والاقتراب من الحقائق بالمصارحة، وهى سلوكيات تؤدى تماما إلى قبول الآخر المختلف معنا بالضرورة، وتدعم فكرة تعايشنا مع تناقضات النفس البشرية وأسرارها التى خلقها الله ويعلم ما بها.


فى التاريخ القديم والوسيط للشعوب مناطق تماس وتسامح واسعة، ظهرت معها حضارات عظيمة، وامتازت بلدان بأدوار كبيرة فى خدمة البشرية، عبر الحوار والتعاون والشراكة أيضا.


وفى التاريخ الحديث والمعاصر عرف العالم تقدما صناعيا وتكنولوجيا كبيرا، أفاد البشرية بالتأكيد، لكن قوى عديدة استخدمته فى تدمير شعوب وتخريب بلدان والسيطرة على ثروات ومقدرات أهلها، ورغم ظهور كيانات أممية وتوقيع إعلانات عالمية ومواثيق دولية وعهود واتفاقيات، لم يسلم العالم من انحيازات كبيرة للأقوى.


وسط تراجعات كبيرة فى مؤشرات السلم والأمن، خاصة بمنطقتنا العربية والإسلامية وما سمى بالشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت شخصيات وأصوات وشعوب داعية للسلام والتسامح وقبول الآخر، رافضة للحرب غير منحازة لقوة شرقية أو غربية، متفهمة حقيقة الأمر مصرة على حماية حقوق شعوبها ومعترفة ومدافعة عن حقوق الإنسان ككل لا يتجزأ أو يصنف طبقا لعرقه أو دينه أو لونه ولغته.


بين هؤلاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى تبنى مع زعماء عالميين فى عصره سياسة عدم الانحياز، ودعا لمفاهيم سياسية متطورة آنذاك أبرزها القومية العربية، دون إنكار للعامل الديني فى تكوين ثقافة شعوب المنطقة من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وكانت وحدة الحقوق جامعة لأفكار أمثاله فى دول المنطقة والعالم.


بنيت فكرة القومية العربية على وحدة اللغة، ومن هنا اعترف عبد الناصر ضمنيا بحقوق الشعوب الأخرى فى دول لها، خاصة خلال مرحلة ما بعد الاستعمار الغربي للمنطقة، وهى رؤية ربما استشعر معها خطورة ملفات مشتعلة أبقت قوى الاستعمار عليها منذ سايكس بيكو وحتى زوال احتلالها لبلدان المنطقة.


من هنا، كان استقبال وترحاب عبد الناصر، بالزعيم الكردى مصطفى بارزانى فى القاهرة بدايات أكتوبر عام 1958 ، وإعرابه عن تقدير مصر وشعبها لنضال الكرد وحقوقهم القومية والإنسانية.


الأمر تكرر فى استقبال الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك للزعيم مسعود بارزانى، وكان مدركا تماما لموقف الرجل وشعب الإقليم المؤيد لحق الفلسطينيين فى إقامة دولة لهم عاصمتها القدس، وخلال العامين الأخيرين كان تجديد مصر، على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسى، تأكيدها على الحقوق الدستورية الكاملة للكرد.


والحال كذلك؛ فى المنطقة كلها؛ ونحن بصدد تاريخ تأسيس الحزب الديمقراطى الكردستانى قبل 74 سنة، وهو أحد أكبر الأحزاب العراقية والكردية معا، تتبنى رؤية مصر وأحزابها وقواها السياسية لقضايا وأزمات المنطقة وشعوبها، قيمة التسامح وقبول الآخر وعدم الاعتداء وحل الخلافات بالحوار لا بالسلاح أو الحرب، وكثيرا ما أكدت القيادة السياسية فى مصر على تلك الرؤية وعبرت خارجيتها عنها.


هذه القيمة تحتاج إلى تعزيز حقيقي من قبل القوى السياسية، والقوى الناعمة، وعلى سبيل الوضوح يمكن القول بأن المسؤولية التى تقع على عاتق القيادة السياسية لبلد تتحمل قواه الشعبية أيضا دورا فيها، فلا يمكن تجاهل هذه الذراع فى تحقيق هدف وطني أصيل، وهو ضمان وحماية حقوق الإنسان وسيادة الأوطان.


إن تعاونا كبيرا بين القوى السياسية والمدنية والحزبية ومسارات الحوار الشعبي الموازية يمكن أن تضبط موازين الأمور فى مختلف القضايا، وتمنع حروبا وتحمى حقوقا وتصون أطفالا ونساء وتجدد علاقات وتطور آليات تواصل حقيقي، وهى مسألة تحتاج لمبادرة موسعة تتبناها قوى متعقلة فى كل الأقطار بالمنطقة، تتفق رؤيتها وأهدافها الوطنية.


المبادرات المخلصة وحدها ستضمن عودة اليمن سعيدا والسودان موحدا وليبيا هادئة والعراق مستقرا وسوريا مبتسمة للمستقبل والصومال بلا أوجاع، وتعيد دويلات متهورة إلى عروبتها، وتمنع تكرار خيبة احتلال عربي لبلد عربي كما حدث فى مثل أغسطس هذا من قبل عراق صدام حسين بحق الشعب الكويتي الشقيق قبل نحو ثلاثة عقود.


لو أن قاموسا للقيم الإنسانية يضم قيمة التسامح وقبول الآخر لتصدرت شعوب منطقتنا بتاريخها وقيمها إياه، ولو أن مسارا انحرفت بنا مركبة التاريخ عنه لتخبطات وتقلبات وتغيرات متسارعة؛ فإن الشعوب وقياداتها قادرة على تصحيحه والسير نحو أهدافها مجتمعة، حتى تستعيد مجتمعاتنا التسامح وتعرف سبيلها نحو التقدم.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط