الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الزعامة : ناصر الساكن فينا


تقاس قيمة العظماء بما يقومون به من أعمال، وما يشيّدون من مشاريع، وبما يتركونه من آثار، أما هؤلاء الأعظم فتقاس قيمتهم بما يُحْيُون من قيم، وما يمنحون الإنسانية من مُثُلٍ، وما يخلقون من آمال، وما يبعثون من طموح، وما يرسمون للآخرين من طريق، وما يساعدون فيه الغالبية العظمى من تحقيق لذواتهم.

إن هؤلاء الأعظم قلة نادرة تمنحها السماء للشعوب في لحظات حاسمة في تاريخها، فتبدلها من حال إلى أخرى، لأنها تصدر أعمالها عن قناعة، وتمنح من قلبها عن رضى، وتبذل من روحها عن إيمان، فيلتف حولها الناس، وتؤمن بها الجماهير، وتدافع عنها الشعوب في كل بقاع الدنيا.

لقد كان جمال عبد الناصر أحد هؤلاء الأعظم، آمن بشعبه، فالتف حوله، منحه من قلبه، فأحبه، بذل من روحه، فسكن أرواح أبنائه.

لم يكن ناصر لشعبه وللشعوب العربية مجرد رئيس، ولم يكن مجرد زعيم – رغم انتشار اللقب – بل كان ملهما صادقا، فتخطى حواجز الأمكنة، ليتربع في قلوب ملايين رأت فيه المخلص، وكان لها الأمل، وظل لها الحلم، الذي رفضت – بعد مرور عشرات السنوات على رحيل جسده – أن تتخلى عنه، بل كلما اشتد عليها الخطب، ازدادت به تمسكا، وظل لها نبراسا.

يختلف الكثيرون على جمال عبد الناصر من الناحية السياسية، ولهم ذلك، فما من رئيس أو ملك أو أمير أو أي حاكم من الحكام اجتمع الجميع على ما اتخذ من سياسة أو سلك من طريق، لتحقيق الأهداف التي يسعى في حكمه للوصول إليها، فربما - نتيجة لعدم امتلاك أدوات - يفشل في الوصول للهدف، ويمكن - لتكالب بعض القوى المعادية لهذا الحاكم أو ذاك - يتلقى هزائم تتضافر الجهود، وتعتمل الأسباب بفعل فاعل لتحقيق هذه الهزيمة، ولقد كان جمال عبد الناصر الحاكم عرضة لهذا كله، فكما حقق إنجازات، فلقد مُنِيَ بهزائم، وهذا - لعمري - ليتفق وما مر بمصر والمنطقة من خطوب، كانت بفعل فاعل، واستهدفت في الأساس مصر عبد الناصر.

نعم لكل صاحب رأي ولكل صاحب نظر أن يتفق أو يختلف على ناصر الحاكم، ولكن لا يمكن لأحد - مهما اشتط في عداء ناصر - أن يختلف مع ناصر الفكرة، ولا أن يتنازل عن ناصر الحلم.

إن ناصر الفكرة يظل ما ظلت عقولنا تعمل، وتسبح في فضاءات العقل تبحث عن طريق، وتدور مع الأيام دورتها تنتظر أن تخرج للعلن، وتبحث عن ثوب ترتديه، وتتوق للتجسيد على أرض الواقع الجرداء، لأن الفكرة روح، والروح تظل عصية على الموت الذي لا يقدر إلا على الأجساد فيحولها جمادات، أما الروح فتبقى بعد موت الموت، تحيا، وهذا ما حدث لناصر الفكرة.

لقد انتصر ناصر للفقراء والمعدمين، ففتح أمامهم أبوابا أوصدت بمغاليقَ شتى، وبعث بشعاع الأمل يراود مخيلات أراد من هم قبله أن تجهض أجنحتها، ففعلوا، وصاغ لهم طموحا كان من المحرمات - ليس فقط تحقيقها بل أن تداعب خيال طبقة الكادحين المعدمين.

لم يكتف ناصر الفكرة أن يطلق عنان مارد أحلام الفقراء والبسطاء في رحلة الإتيان، والتي تحقق للأفراد منها للعديد منهم الكثير، بل غرس ناصر الحلم على مستوى العقل الجمعي العربي، ذلك الذي - رغم فشل محاولته الوحيدة - مازال يحيى في المخيلة الجمعية لأبناء الوطن العربي جميعا، ففي وسط هذا الحطام، وذلك الركام العربي، ظلت صورة ناصر ناصعة، وبقيت فكرته حاضرة، واستمرت الرغبة عارمة، والأشواق متحرقة، وكلما مر الزمان، ازداد تمسك الشعوب العربية بناصر الفكرة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط